حرب الغاز ..كيف تحولت مصر من الاستيراد للتصدير خلال 3 سنوات؟

حرب حقيقية تتعرض لها مصر على الجبهة الاقتصادية، وتقف اكتشافات حقول الغاز، فى خط الدفاع الأول، بل يمكن القول إنها المنقذ الأكبر والأهم من مآلات مأساوية، كان سيئُول إليها الاقتصاد لو لم يتم اكتشاف تلك الحقول، ووقف الاستيراد الذى كان يكلف خزانة الدولة ٣.٦ مليار دولار، بل الاستعداد للتصدير، بعد سد احتياجات السوق المحلية.
فى التقرير التالى،كيف تحولت مصر من مصدر للغاز إلى مستورد، ثم كيف عادت مرة أخرى، وفى خلال ٣ سنوات إلى مصدر مرة أخرى؟.

الاكتشافات الجديدة ليست ضربة حظ.. والإنجاز تحقق بـ4 خطوات بعد تعثر 2011 ،كان كل شىء طبيعيًّا فى مصر حتى الساعة الثانية و٥٠ دقيقة ظهرًا، من يوم الأحد ٣٠ أغسطس عام ٢٠١٥، حين خرجت شركة “إينى” الإيطالية المتخصصة فى التنقيب عن النفط والغاز لتعلن الآتى: اكتشفنا حقل غاز ضخمًا فى المياه الإقليمية المصرية وهو الأكبر على الإطلاق فى تاريخ اكتشافات البحر المتوسط.
بالعودة لسنوات سابقة، وتحديدًا فى العام ٢٠١٠، حينها كانت مصر تنتج كميات كبيرة من الغاز تكفى الاستهلاك المحلى وتصدر للخارج، بعدها اندلعت ثورة يناير، لتتحول مصر فجأة من مصدرة للغاز إلى مستوردة.. والسؤال: كيف حدث هذا التحول؟

أولًا: اندلاع الثورة أدى إلى انهيار ثقة الأجانب فى الاقتصاد المصرى، بمن فيهم المستثمرون فى قطاع البترول.
ثانيًا: بسبب فوضى ما بعد يناير ٢٠١١، حدث شلل للجهاز الحكومى، وعانى الاقتصاد كثيرًا، وتدهورت السياحة وانهار الأمن الداخلى، وانهارت معه الإنتاجية، وبناء عليه ارتفع عجز الموازنة، فتراجعت قدرة الحكومة على سداد مستحقات الشريك الأجنبى فى حقول النفط والغاز.
ثالثًا: تراكمت المستحقات فبدأ الشركاء الأجانب يفقدون الثقة فى الدولة المصرية وفى جديتها على تشجيع التنقيب والاستكشاف النفطى والغازى، فتوقفوا عن الإنتاج وانسحبوا.
رابعا: استمرار الزيادة السكانية بالتوازى مع انهيار قدراتنا الإنتاجية من الغاز والنفط، فاشتعلت مشكلة انقطاع الكهرباء عن المنازل والمصانع والأنشطة التجارية نتيجة نقص الغاز.

خامسًا: تحولنا للاستيراد، لكن وبرغم ذلك، وبسبب ضعف الموارد الدولارية للدولة فى هذه الفترة لم نكن نستورد بالكميات التى تكفى لحل مشكلة الطاقة.
سادسًا: استمرت مستحقات الشريك الأجنبى فى حقول النفط والغاز، وتراكمت حتى وصلت إلى حوالى الـ٦.٥ مليار دولار، وباتت سُمعة مصر فى هذا القطاع عالميا سيئة للغاية، تدهورت معها تنافسية اقتصادنا والصورة الذهنية التى تتشكل عنا فى الخارج أمام مجتمع الاستثمار الدولى.
سابعًا: عدم توقيع أى اتفاقيات جديدة لمدة ٣ سنوات بعد الثورة.
ثامنًا: هذه الكوارث الاقتصادية والتعثرات المالية والمستحقات المتأخرة والسمعة المتدهورة حول العالم عن الاقتصاد المصرى- تحدث فى أثناء دعم كامل من الدولة للمنتجات البترولية دون ترشيد أو تنظيم أو تخطيط، أى أننا نستورد معظم احتياجاتنا بعد أن كنا نصدرها، بل الأكثر من ذلك أننا نبيعها للسوق المحلية بأقل من تكلفتها بنسبة تصل إلى أكثر من ٣٠٠٪.

كل هذه المسببات تطرح سؤالا آخر، ربما كان أكثر أهمية:
كيف تحقق إنجاز اكتشاف حقول الغاز فى البحر المتوسط؟.. والواقع أن هذا الأمر سبقه جهد كبير لتحقيق تلك النتيجة.
عند تولى الرئيس الحالى للمسئولية فى منتصف ٢٠١٤، كان وقتها المهندس شريف إسماعيل وزيرا للبترول والثروة المعدنية، واتخذت الدولة مجموعة من الإجراءات، أهمها:
١- بدأنا وضع خطة سداد واضحة لإنهاء مشكلة مستحقات الشريك الأجنبى لإثبات حسن النية وجدية الدولة المصرية على تشجيع المستثمرين، مثل شركتى إينى وبى بى وغيرهما، على الاستمرار فى أعمالها واكتشافاتها وإنتاجها.
٢- بين يوليو ٢٠١٤ ويوليو ٢٠١٦ كنا قد سددنا نصف المديونية الدولارية، أى تقريبا سددنا ٣.٥ مليار دولار «المديونية حاليا وصلت لأقل من ٢.٣ مليار دولار نزولا من ٦.٦ مليار دولار.

٣- التزام الحكومة المصرية بخطة السداد وجدولة الديون أعطى الشركات الأجنبية برهانا على جدية الدولة فى حل هذا الملف، فاستعادت الشركات نشاطها من جديد.
٤- تعديل الحكومة المصرية سعر شراء الغاز من الشريك الأجنبى ليتماشى مع الأسعار المتداولة فى السوق العالمية لتشجيع الشركاء على مزيد من الإنتاج والاستكشاف والتنقيب وضخ الاستثمارات.

حقول الغاز فى المتوسط توفر مليارات الدولارات

بعد هذا الجهد تحقق الاكتشاف الأكبر فى البحر المتوسط، وهو حقل ظهر للغاز، ووصل حجم الاكتشافات ٤٠ تريليون قدم مكعبة، إجمالى احتياطيات الغاز المكتشفة فى مصر فى ٦ حقول، منذ أغسطس ٢٠١٥ حتى الآن، باستثمارات إجمالية تبلغ ٣١ مليار دولار.
وضمت الاكتشافات ٦ حقول هى: ظهُر، وشمال الإسكندرية، ونورس، وأتول، والصحراء الغربية، وبلطيم، عن طريق شركات إينى، وبى بى، وشل، وروسنفت.

وعند الوصول للإنتاجية الكاملة لجميع الحقول المكتشفة ستكون الأولوية القصوى للسوق المحلية، حتى يتحقق الاكتفاء الذاتى، ثم بداية التصدير، ومن المتوقع الوصول لهذه المرحلة بحلول ٢٠٢٠٢٠٢١.
وتوفر هذه الاكتشافات لمصر مليارات الدولارات، بعد أن كان حجم استيراد مصر سنويا يقدر بحوالى ٣.٦ مليار دولار شحنات غاز طبيعى لسد العجز بين الإنتاج والاستهلاك، وهو ما يعادل ٦٣.٧ مليار جنيه.
وهذه التكلفة يمكن أن تستفيد منها مصر فى إنجاز ٣٧٠ مستشفى مجهزا بأحدث المعدات أو ١٠ آلاف مدرسة أو إنشاء ٨٠٠ كيلو طرق أو حفر ٣ قنوات موازية، مثل قناة السويس الجديدة.
وهناك دول فى منطقة شرق المتوسط تنافس مصر فى إنتاج الغاز، مثل قبرص واليونان وتركيا ولبنان وإسرائيل، لكن ما الذى يميز مصر عن باقى المنافسين فى المنطقة:

– مصر هى الدولة الوحيدة فى منطقة شرق المتوسط التى تملك منشآت تسييل غاز وبنية تحتية أساسية وجاهزة للتصدير، قيمتها تعادل تقريبا ٩٠٪ من الاحتياطى النقدى المصرى، أى أن هذه المنشآت ثروة قومية تعطى ميزة تنافسية هائلة فى الصراع على الطاقة.
– استحالة قيام أى من الدول المنافسة بإنجاز مثل هذه المنشآت، بسبب ارتفاع التكلفة، مقارنة بالعوائد والاكتشافات التى تقدر حاليا قيمتها من ٢٠ إلى ٣٠ مليار دولار، فى نفس الوقت الذى تكلفت فيه نفس هذه المنشآت، حين بدأت القاهرة تشييدها بداية الألفية ١.٨ مليار دولار فقط.
– سددت مصر كل ديون البنوك الشريكة فى تمويل مصانع التسييل، وعددها ٤٢ بنكا محليا وأجنبيا، وأصبح المشروع صفر ديون فى يوليو من العام الحالى أى منذ ٣ أشهر فقط.

العوائد تقود برنامج الإصلاح وصولًا إلى قائمة العشرة الأوائل فى الاقتصادات الناشئة
هناك علاقة مباشرة بين الإصلاحات الاقتصادية واستكشافات الغاز وتأثيرها على الاقتصاد.. لذا سريعا سنوجز ما تحقق حتى الآن من برنامج إعادة هيكلة وضبط الاقتصاد المصرى:
– خفض وترشيد وإعادة هيكلة منظومة الدعم.
– بداية الإصلاح الضريبى بفرض القيمة المضافة.
– تحرير سعر الصرف والقضاء على السوق السوداء.

– استعادة ثقة الأجانب فى السوق المحلية.
– ارتفاع الاستثمارات الأجنبية فى مصر.
– تعافى السياحة بعد نجاح جولات الترويج والتسويق لأسواق مختلفة.
– صياغة وإقرار قانون استثمار معدل ومتماشٍ مع تحديات الدولة.
– تراجع العجز فى الميزان التجارى بنسبة ٥٠٪.
– تراجع عجز الموازنة إلى ١٠.٩٪، مقارنة بـ ١٣.٥٪ فى ٢٠١٤.
– تراجع البطالة الى ١١.٩٪، مقارنة بـ١٣.٤٥ فى ٢٠١٤.
– ارتفاع النمو إلى ٥٪ فى أفضل مستوياته منذ اندلاع ثورة يناير.
– ارتفاع ودائع المصريين لـ٣ تريليونات جنيه، وهو الرقم القياسى الأعلى فى تاريخ الجهاز المصرفى المصرى.
– التحول من العجز إلى الفائض فى الطاقة الكهربائية، بمقدار ٣٠٠٠ ميجاوات لأول مرة، واستهداف ١٧ ألف ميجاوات بنهاية ٢٠١٧.

– تحسن ترتيب مصر فى مؤشر التنافسية العالمية ٢٠١٧ بمقدار ١٩ مركزًا، مقارنة بـ٢٠١٤، حيث انتقلنا من الترتيب الـ١١٩ إلى ١٠٠ عالميا.
بناء على ما سبق من نقاط عن الإصلاحات الاقتصادية، يأتى قطاع الغاز الطبيعى واكتشافاته الأخيرة، ليمثل دفعة قوية للاقتصاد المصرى الذى يتعافى ببطء، ويخرج تدريجيًّا من عنق الزجاجة والأزمة الاقتصادية التى وقعنا بها، منذ يناير ٢٠١١.
قطاع الغاز الطبيعى بصفته قطاعًا خارجيًّا- أى أنه يتم التعامل فيه بالدولار ويكون بالتعامل مع دول العالم- لذا فهو جزء رئيسى فى مكونات ميزان المدفوعات والميزان التجارى.

وبالتالى فإن اكتشافات الغاز الأخيرة ستمثل حجر الأساس لاقتصاد مصرى قوى ومستدام ومنافس فى منطقته والعالم بقوة، فقد توقع مركز “بى إم آى” البحثى التابع لمؤسسة فيتش للتصنيف الائتمانى أن يكون الاقتصاد المصرى فى قائمة أسرع ١٠ اقتصادات ناشئة صاعدة فى العالم الـ١٠ سنوات القادمة، بفضل قطاع تصدير الغاز الطبيعى، وأن يكون القطاع هو المحرك الرئيسى للنمو القوى المتوقع أن تحرزه القاهرة.
علينا أن ندرك أن ما يحدث فى سوق الغاز هو حرب فعلية، وليست منافسة تجارية عادية، خاصة من الأتراك وسياساتهم العدائية المستمرة ضد مصر طوال الوقت.
ويستدعى ذلك ضرورة وضع خطة مستقبلية لكيفية إدارة الموارد من الغاز بعد تحقيق الاكتفاء الذاتى وكيفية تسويقه وتوزيعه ونقله، ويجب تحديد من هم العملاء المحتملون، ومن الضرورى رصد تحركات المنافسين وتغيرات علاقتهم بأوروبا وروسيا بالأخص.