انفراط سلسلة التوريد كابوس يؤرق صناعة السيارات البريطانية

اذا أخذنا واحدة من السيارات الـ 1.7 مليون التي تم صنعها في المملكة المتحدة العام الماضي من المرجح أن تكون عجلة القيادة في السيارة صُنعت في ألمانيا، ووحدات التحكم الإلكترونية جاءت عبر رومانيا، ومضادات الصدمات من بولندا. في الواقع أكثر من نصف المكونات الـ 30 ألفا الموجودة في أي سيارة عادية مصنوعة في بريطانيا تأتي من خارج المملكة المتحدة.
حتى 23 حزيران (يونيو) من العام الماضي هذا كان يُمثّل انتصاراً للخدمات اللوجستية الحديثة لسلسلة التوريد. الآن، لأن المملكة المتحدة ستُغادر الاتحاد الأوروبي، أصبح الأمر أقل روعة وأقرب إلى كونه مشكلة.
قطاع السيارات الذي يوظّف أكثر من 800 ألف شخص في المملكة المتحدة، 170 ألفا منهم يعملون في وظائف التصنيع، هو واحد من أهم الاختبارات حول كيف سيؤثر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في الصناعة في المملكة المتحدة. فبموجب قواعد التجارة التي من المرجح أن تواجهها المملكة المتحدة بعد مغادرة الاتحاد الأوروبي، من الممكن أن تجتذب صادرات السيارات البريطانية رسوما جمركية ثقيلة، إذا لم تتمكن شركات صناعة السيارات من الحصول على نسبة أعلى بكثير من المكونات التي تدخل في صناعة سيارة عادية من نيسان، أو هوندا، أو فوكسهول من داخل المملكة المتحدة.
يقول مايك هوز، الرئيس التنفيذي لجمعية شركات تصنيع وتجارة السيارات “قواعد منظمة التجارة العالمية ستعني رسوما جمركية بنسبة 10 في المائة على السيارات، ومتوسط رسوم جمركية بنسبة 4.5 في المائة على المكونات. ستزيد تكلفة إنتاجنا أكثر من منافسينا. القدرة التنافسية البريطانية ستتضرر. كما يُمكن أن تزيد تكلفة السيارات على المستهلكين البريطانيين”.
ومع أن قاعدة الموردين توسّعت في الأعوام الأخيرة، إلا أن شركات صناعة السيارات البريطانية لا تزال تعتمد على الاتحاد الأوروبي. يقول رالف سبيث، الرئيس التنفيذي لشركة جاكوار لاند روفر، أكبر شركة لصناعة السيارات في بريطانيا “نعتمد كثيرا على أوروبا. ببساطة لا يُمكننا شراء بعض المكونات في المملكة المتحدة”.
في وقت سابق من هذا العام دعت “نيسان” مجموعة كبيرة من شركات تصنيع المكونات الدولية إلى قاعدتها البريطانية في شمال شرقي إنجلترا وقدّمت عرضا بسيطا: “نرجو أن تأتوا إلى بريطانيا”. في أعقاب قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي تلقّت شركة صناعة السيارات اليابانية تأكيدات من الحكومة أن عملياتها ستكون معزولة عن أسوأ آثار ذلك، وبالتالي استجابت بالالتزام بصناعة جيلها التالي من سيارات الاستخدامات الرياضية في مصنع التجميع التابع لها في سندرلاند.
كبار المسؤولين التنفيذيين في الشركة، وحتى وزير التجارة البريطاني، مارك جارنيير، كانوا موجودين للإجابة عن الأسئلة من شركات التوريد التي راوحت من شركات تشكيل المعادن إلى شركات صناعة المكونات المعقدة. ما بدأته “نيسان” فعلته شركات أخرى، بما في ذلك جاكوار لاند روفر، وتويوتا، وفوكسهول، و”ميني” من “بي إم دبليو”، ما أطلق جهودا منسقة على الصعيد الوطني لإعادة بناء سلسلة توريد السيارات في المملكة المتحدة.
من الناحية النظرية، يُمثّل خروج بريطانيا فرصة لتحفيز إنتاج المكونات في المملكة المتحدة، بتوفير دفعة للقاعدة الصناعية والاقتصاد الأوسع. لكن إذا قصَّرت تلك الجهود يُمكن أن تُصبح مصانع السيارات في المملكة المتحدة أقل قدرة بكثير على التنافس.
في إعلان وصفَتْه الحكومة البريطانية بأنه “تصويت بالثقة” في المملكة المتحدة، قالت “بي إم دبليو” الأسبوع الماضي “إنها ستبني أول سيارة ميني كهربائية في المملكة المتحدة اعتباراً من عام 2019″، لكن في إشارة إلى المعضلة الأوسع للصناعة، البطارية التي ستُشغّل السيارة سيتم صنعها في ألمانيا.

انخفاض الاستثمار
شركة نيسان التي تُصدّر 55 في المائة من إنتاجها في المملكة المتحدة إلى أوروبا، كانت في طليعة الجهود الرامية إلى جذب المزوّدين إلى بريطانيا، لكنها أيضاً أطلقت إنذاراً بشأن خروج بريطانيا. كولين لوثر، مدير التصنيع الأوروبي في شركة صناعة السيارات اليابانية، أخبر لجنة مختارة من أعضاء البرلمان في شباط (فبراير) أن مصنع سندرلاند “لن ينجح في المستقبل، مع أو بدون خروج بريطانيا، ما لم تفعل الحكومة شيئاً لمساعدتنا في سلسلة التوريد”.
وطلب تمويلاً بمقدار 100 مليون جنيه لمساعدة شركات صناعة السيارات على نقل شركات صناعة قطع السيارات إلى بريطانيا. سأله أعضاء البرلمان ما إذا كان موقع “سندرلاند”، بدون المال، سيكن آمناً. أجاب “لا. لا أظن ذلك”.
عدم اليقين بشأن خروج بريطانيا يلحق الضرر بالصناعة منذ الآن. انخفض الاستثمار في قطاع السيارات من 2.5 مليار جنيه في عام 2015 إلى 1.66 مليار جنيه في العام الماضي، وإلى 322 مليون جنيه فقط في الأشهر الستة الأولى من عام 2017، وفقاً لاتحاد شركات تصنيع وتجارة السيارات.
وحذّر الاتحاد في الأسبوع الماضي من أن إنتاج السيارات في المملكة المتحدة يُمكن أن ينخفض 10 في المائة إذا لم تضمن بريطانيا صفقة انتقالية تسمح للصناعة بمتابعة التجارة مع أوروبا بعد مغادرة الاتحاد الأوروبي، في الوقت الذي يجري فيه الاتفاق على الشروط الخاصة بصفقة تجارية كاملة.
المكونات البريطانية كانت في الماضي تُشكّل 80 في المائة من قطع السيارات المصنوعة في بريطانيا، إلا أن هذا الرقم تراجع إلى نحو 30 في المائة خلال التسعينيات ومطلع العقد الأول من الألفية. لكنه كان يرتفع ببطء مرة أخرى، ووصل إلى 44 في المائة هذا العام، بحسب مجلس السيارات، وهو هيئة مشتركة تضم الحكومة والقطاع الخاص.
ويوفّر خروج بريطانيا الآن إلحاحاً جديداً. فبمجرد أن تغادر بريطانيا الاتحاد الأوروبي، يجب أن تضع اتفاقيات التجارة الحرة الخاصة بها التي ستسمح لها ببيع البضائع للدول الأخرى بدون تكبّد رسوم جمركية مُكلفة. لكن بموجب أنظمة “قواعد المنشأ”، اتفاقيات التجارة الحرة عادةً ما تنص على أن السيارات يجب أن تحتوي على نسبة معينة من المكونات من بلد التصنيع. ويعتقد مختصون أن هذا يمكن أن يعني بالنسبة إلى بريطانيا أن يكون نصف جميع المكونات على الأقل من مصادر محلية.
وفقاً لمنظمة سلسلة التوريد الأوروبية “كليبا”، كل مكون من تلك المكونات الـ 30 ألفا الموجودة في السيارات الحديثة، يحتوي 30 مكونا فرعيا مرّت عبر 15 بلدا أثناء إنتاجها. ولأن كثيرا من القطع التي تدخل ضمن مكونات “الطبقة الأولى” تأتي من الخارج، فبالتالي من المرجح تماما أن حصة المكونات البريطانية في السيارة أقل بكثير من 44 في المائة، ما يجعل الفجوة التي يجب سدّها أكبر حتى من قبل.
وبدون الوصول إلى الحد الأدنى من المكونات، ستكون السيارات التي تُصنع على خطوط الإنتاج البريطانية عُرضة لرسوم جمركية من منظمة التجارة العالمية تصل إلى 10 في المائة – ما يجعلها أكثر تكُلفة بكثير. هناك حل واضح يتمثل في إجبار شركات صناعة السيارات في المملكة المتحدة على الشراء من المزودين المحليين. لكن في عديد من الحالات، لا تكون القطع متوافرة.
شركة لاند روفر التي يصل إنتاجها السنوي إلى 600 ألف سيارة، تشتري 40 في المائة من مكوناتها من أوروبا. بالنسبة إلى إطلاق الأخير سيارة “رينج روفر فيلار” التي يبلغ سعرها 60 ألف جنيه، أقنعت “لاند روفر” شركة فرنسية لصناعة المصدّات، هي “بلاستيك أومنيوم”، بإنشاء فرع لها في بريطانيا، مع وعدها بتوفير موديلات أخرى في هذا الخط من السيارات.
لكن مثل هذا الترتيب لا يُمكن أن يتكرر مع قطع الغيار الأكثر تعقيداً. من سبائك العجلات إلى الإلكترونيات داخل السيارة، من الصعب تصنيع كثير من المكونات على نطاق واسع في سوق إنتاج السيارات فيها أقل من ثُلث الحجم في ألمانيا التي تُنتج ستة ملايين سيارة سنوياً.
يقول نايجل شتاين، الرئيس التنفيذي لمجموعة التصنيع البريطانية GKN “ليس الأمر أن بإمكانك فعل كل شيء في المملكة المتحدة. في اقتصاد اليوم يجب أن يكون لديك نطاق اقتصادي، وهذا لن تحصل عليه في كل بلد في العالم”.

إغراء المزوّدين
في عام 2014 وضع “مجلس السيارات” قائمة بعناصر سلسلة التوريد التي يُمكن أن تجتذبها المملكة المتحدة. كان من أبرزها مسكوبات المحركات، الإطار المعدني لمحرك السيارة، فضلاً عن مكونات المقاعد، وسبائك العجلات، والإضاءة، والدهان، والمصدّات، ومجموعات الأدوات. تم إنشاء هيئة حكومية جديدة هي “منظمة استثمار السيارات”، لاجتذاب مصانع جديدة. عملية الإغراء لجذب المزودين يُمكن أن تدوم من أشهر إلى عدة أعوام، وعادةً ما تنطوي على لقاء مع أحد كبار الوزراء، وجولة في منشأة سيارات في المملكة المتحدة، ومأدبة عشاء في غرفة خاصة في نادي السيارات الملكي في بول مول.
وتمتعت المملكة المتحدة ببعض النجاح. فقد تحققت استثمارات تزيد على ملياري جنيه في الأعوام الثلاثة الماضية، بينما سقط عدد من المواد، مثل العوادم، من قائمة الرغبات في الوقت الذي أنشأ فيه مزودون فروعا لهم في المملكة المتحدة.
ويعتقد جارنيير، وزير التجارة البريطاني، أن بريطانيا ما بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي ستظل قادرة على جذب استثمارات كبيرة. فالنظام القانوني في البلاد، فضلاً عن تراثها في السيارات الرياضية والأبحاث والتطوير، يجعلها وجهة جذابة، كما يقول. لكنه يعترف بأن خروج بريطانيا يُشكّل “تحدياً”: “لا يُمكننا محاولة القول إن هذه ليست مشكلة عندما يتعلق الأمر بالموارد الأوروبية، هذا سيكون كذباً”، مُضيفاً أن “خروج بريطانيا يُمثّل فرصة كبيرة لإعادة بناء قاعدة التوريد”.
كثير من المجالات الرئيسية في السلسلة لا تزال غير موجودة في المملكة المتحدة. التشكيل، عملية التصنيع التي يتشكل المعدن من خلالها إلى قطع غيار تحت الضغط، مثال رئيسي على كيف أن سلسلة التوريد البريطانية أصبحت فارغة. فبحسب اتحاد شركات تشكيل المعادن البريطانية، في منتصف السبعينيات كانت الصناعة تنتج نحو نصف مليون طن من القطع المصبوبة سنويا، 60 في المائة منها كان يذهب إلى سيارات الركاب، والسيارات التجارية، والمعدات الثقيلة مثل الحفارات. اليوم يتم صنع 130 ألف طن فقط، أقل من خُمسها موجّه للسيارات.
على الرغم من أن بعض قطع السيارات المصبوبة الأصغر تُصنع محلياً، إلا أنه لا توجد مكابس كبيرة مخصصة لذراع التدوير في سيارات الركاب. المواقع البريطانية القائمة التي تخدم صناعات الطيران، والشاحنات، والتعدين لا يُمكن إعادة توجيهها بسهولة لهذه المهمة.
كين كامبل، إخصائي التشكيل في “سي بي إم”، يقول “سنكون بحاجة إلى الحصول على مصانع جديدة”، مع خط مُخصص لإنتاج ذراع التدوير للسيارات. هذا سيُكلّف “عشرات الملايين” – سيكون من الصعب تبرير إنفاق ذلك المبلغ بدون التزام قوي من الزبائن.
هناك فجوة أخرى هي سبائك العجلات. فعلى الرغم من أن هذه واحدة من الإضافات الأكثر شعبية في السيارات الجديدة، إلا أن شركة الإنتاج الرئيسية الوحيدة في بريطانيا “ريمستوك”، تُلبّي احتياجات السوق الراقية للسيارات وسيارات السباق.
يقول رئيسها التنفيذي، ستيفن لين “صناعة العجلات أمر بسيط إلى حد ما، لكنه يتطلب كثيرا من الاستثمار لإنجاز ذلك بشكل صحيح”، مشيرا إلى أن وجود مصنع بريطاني يُلبّي احتياجات سيارات السوق الشاملة يتطلب استثماراً بقيمة 200 مليون جنيه، وسيكون بحاجة إلى صناعة ما لا يقل عن مليوني عجل سنوياً ليكون قابلا للحياة.
وتسعى شركة ريمستوك إلى زيادة الإنتاج إلى 650 ألف عجل سنوياً. لكنها لا تملك خططا للتوسع في السوق الشاملة. يقول لين “بحثنا في الأمر، وفحصنا تكلفة ذلك. سيشكل علينا ضغطا كبيرا للغاية فوق طاقتنا”.

فجوة الإلكترونيات
الإلكترونيات، الوظيفة ذات الأهمية المتزايدة في السيارات الحديثة التي تستخدم البرامج لوضع الميّزات، بدءا من مُساعد التوجيه إلى وصلة الإنترنت اللاسلكي، تعد فجوة آخذة في الاتساع في قاعدة التوريد. وحدات التحكم في الإلكترونيات التي هي دماغ نظام الترفيه والمعلومات والملاحة في السيارة، يتم صنعها في أسواق منخفضة التكاليف وشحنها إلى أنحاء العالم كافة. في أوروبا، يغلب عليها أن تُجمَّع في رومانيا، حيث تكلفة العمالة جزء صغير مما هي في المملكة المتحدة.
يقول ماتيو فيني، المحلل في “آي إتش إس”، المختص في سلسلة توريد السيارات “بغض النظر عمّا إذا كنت “فيات” في إيطاليا أو “جاكوار لاند روفر” في هيلوُود فأنت تشتري من أوروبا الشرقية”.
بعض قطع الغيار يجب أن تُصنع محلياً لأنها ثقيلة جداً. يقول فرانسيسكو ريبيراس، الرئيس التنفيذي لشركة طبع المعادن الإسبانية، “جيستامب”، “إذا كنت مزودا للوحة كبيرة من الهيكل، يجب أن تكون قريباً جداً لأن تكلفة الخدمات اللوجستية ستقتلك. يجب أن تكون محلية”. وأكّدت المجموعة استثمار 70 مليون جنيه في مصنع ضغط جديد في المملكة المتحدة بعد وقت قصير من التصويت على خروج بريطانيا.
بالنسبة إلى الشركات الصغيرة الجهود لشراء مزيد من قطع الغيار البريطانية يؤدي إلى طفرة في الطلبيات. لكن الشركات الأخرى تظل غير راغبة في المقامرة على توسع كبير للبيع مباشرة إلى شركات السيارات التي تصنع بأحجام كبيرة، التي تضغط كثيرا على شركات التوريد التي تتعامل معها.
بموجب العمليات التي “تتم خلال الوقت المناسب بالضبط”، تصل القطع إلى أحد المعامل قبل ساعات فقط من تركيبها في السيارات، وفترات التسليم المتاحة تكون ضيقة أحيانا إلى مستوى عشر دقائق. يقول مدير أحد المعامل في بريطانيا “إذا فاتك موعد التسليم فستتوقف خطوط الإنتاج. لا بد أن تكون مهيأ تماما”.