الغاز الروسي يعمّق الشرخ الأمريكي الأوروبي

أبرز أوجه وتجلّيات السياسة وصراعاتها، على تنوّعها، أنها انعكاس للاقتصاد وتناقضاته وما تشتبك فيه من مصالح وتجاذبات وتقاطعات، حقيقة يدعمها التاريخ وصداماته الكبرى وماضي وحاضر العلاقات الدولية.

لم يكن الانقسام الأوروبي الأمريكي حول إيران سوى أحد تجليّات تلك الحقيقة، وجاء لاحقا لتناقض اقتصادي نشأ وتعاظَم تدريجيا بين القوّتين ولعبت فيه القوّة الروسية الصاعدة دورا فاعلا، في سياق الدور الحيوي والمتزايد لثروة الغاز الطبيعي واحتياطاته كمصدر للطاقة، مع كل متعلّقاته من مزوّدين وأسواق ومعاملات تجاريّة وعمليات للنقل أو التسييل، تناقض وُلِد في أوروبا وتبرز تداعياته إلى سطح المشهد السياسي العالمي الحالي، بموازاة تناقضات جديدة متصاعدة في الشرق الأوسط تدور حول ثروات الغاز الطبيعي الهائلة في قطاع شرق البحر المتوسط.

توفّر روسيا لأوروبا إمدادات ضخمة من الغاز الطبيعي من خلال “خط الشمال”، الذي افتتحت المرحلة الأولى منه في نوفمبر عام 2011 وبعدها المرحلة الثانية في أكتوبر عام 2012، وهو خط الغاز الأطول في العالم بامتداد يبلغ 1222 ك.م، وينقل 55 مليار متر مكعب إلى أوروبا مرتكزا في شمال شرق ألمانيا للاستقبال والتوزيع.

في عام 2015، ظهرت إلى العلن الإرادة الروسيّة الأوروبية المشتركة لتدشين “خط الشمال 2″، الذي سيضمّ خطّين إضافيين للخط الأول وصولا بالإمدادات، حال إتمامه، إلى 110 مليارات متر مكعب، ونحو ذلك، وقّع الجانب الروسي اتفاقا مبدئيّا مع شركات أربعة تمثّل تكتّلا أوروبيا من ألمانيا وهولندا والنمسا وفرنسا، علما بأن الجانب الروسي، ممثّلا في شركة غاز بروم العملاقة، يمتلك 51% من أسهم الشركة المخصصة لإدارة وتشغيل خط الشمال، شركة نورد ستريم AG، بينما تحمل الأسهم الباقية شركات ألمانية وهولندية وفرنسيّة، بينما ستضمّ شركة المشروع الجديد، نورد ستريم 2 AG، غاز بروم الروسيّة حاملة لـ50% من الأسهم، في مقابل تكتّل خمس شركات أوروبية تحمل النصف الآخر.

الولايات المتحدة.. محاولات للعرقلة

وجاء الخيار الروسي الأوروبي بإنشاء الخط الثاني مدفوعا بالجدوى الاقتصادية الطبيعية، تماما كما بالأزمة السياسيّة الأوكرانية وحضور النفوذ الأمريكي فيها، وتهديدها، في السابق، للإمداد الروسي لأوروبا بالغاز من خلال “خط الجنوب” المارّ بها، مع خلافات ماليّة بين إدارتيّ روسيا وأوكرانيا تنتقص، ربحيّا، من استفادة روسيا من غازها المصدّر لأوروبا، والذي يؤمن للأخيرة ثلث احتياجاتها من الغاز بكميّة يمر نصفها عبر أوكرانيا، في حين تستطيع روسيا من خلال “خط الشمال 2” نقل الغاز إلى أوروبا بتكلفة أقل من نظيرتها عبر أوكرانيا، وهو ما يمثّل مصلحة منطقية مشتركة بين البائع الروسي والمشتري الأوروبي، ومن هنا تعمل القوى الأوروبية الأكبر، وعلى رأسها ألمانيا، الطرف المباشر المتلقّي للغاز الروسي، لإتمام المشروع الذي تعوقه العقوبات الاقتصادية الأمريكية على الشركات الروسيّة، علما بأن خط الجنوب سينتهي النقل من خلاله عام 2019 وتنوي روسيا عدم تمديد عقد الترانزيت بعدها.

تلقي الولايات المتحدة بثقلها وأدواتها المختلفة على خط الأزمة رافضة المشروع، إذ يلتقى المشهد السابق بسعي أمريكي محموم للخصم من قوة روسيا وإجهاض نفوذها في أوروبا، وطموح لتصدير الغاز الطبيعي الأمريكي المُسال إلى أوروبا بعقود كبيرة وطويلة الأجل مع الزبون الأوروبي ذي الاحتياجات الضخمة من تلك السلعة، إذ يعيق غياب عقود كتلك إقامة مشاريع جديدة، عالية التكلفة، للتسييل، في ظل تواضع السوق الحالي للغاز الأمريكي المُسال في تشيلي والمكسيك والأرجنتين والهند.

وفي الاتجاه ذاته، تتحرك بولندا، الذي يتطلب المشروع مرور أنابيب المشروع منها بحكم الجغرافيا، لتقف في مواجهة روسيا والقوى الأوروبية، تماما كما تعتمد عليها الولايات المتحدة في إيواء منظومة الدرع الصاروخي المهددة للأمن القومي الروسي، والتي عطّلت روسيا تهديدها بآخر مضاد حين زوّدت مقاطعة كالينينجراد (المشرفة على شمال منطقة الاتحاد الأوروبي) بصواريخ إسكندر المتطوّرة، وفي الإطار ذاته، تحشد الولايات المتحدة ضد المشروع، أوكرانيا ودول البلطيق (استونيا ولاتفيا وليتوانيا) والتشيك وسلوفاكيا والمجر ورومانيا وكرواتيا واليونان، وترعى تحركاتهم لإجهاضه من خلال المفوضية الأوروبية.

وتبدو مهمة اختراق أمريكا لسوق الغاز الطبيعي في أوروبا بالغة التعقيد، في ظل اعتمادية أوروبية على صادرات الغاز الجزائري إلى جنوب القارة، ورسوخ الاعتمادية على الصادرات الروسية المنقولة بالأنابيب بما يجعلها أقل تكلفة من الصادر الأمريكي المُسال، بالإضافة إلى وجود المنافس الأسترالي في سوق المحيط الهادي، والذي سيوفّر الغاز المُسال لليابان وكوريا الجنوبيّة وتايوان بتكلفة أقل نظرا للقرب الجغرافي، ويخطط لإنتاج 60 مليون طن سنويّا، وفي المقابل تتقدم روسيا بخطى بطيئة، لكنها ثابتة، تجاه إتمام المشروع، وتطاردها إدارة ترامب بتوقيع المزيد من مراسيم العقوبات على الشركات الروسيّة التي ستعمل في مشروع خط الشمال 2 تحديدا، ورغم ذلك تكتسب روسيا وتكتّلها الأوروبي مزيدا من الحلفاء في هذا الصراع، إذ وقّعت شركة نورد ستريم 2 AGالمشغّلة للمشروع عقدا مع شركة “كفايرنر” النرويجية، التي تملك حكومة النرويج 30% منها، لتوفير إمدادات لوجيستية لإقامة الخط الجديد.