بقلم: د. نعمت ابو الصوف
هناك عديد من الاراء حول أسواق النفط والعوامل المختلفة التي تحرك الأسعار. على سبيل المثال، أسعار الصرف بين العملات واحد من هذه العوامل، خاصة التحركات الكبيرة في سعر صرف الدولار الأمريكي. المؤشرات الفنية والدورات السلعية هي مجالات أخرى. العرض والطلب والمخزونات أي “الأساسيات”، هذه حسب النظرية الكلاسيكية للأسواق يجب أن تكون هي الحاسمة. جميع هذه العوامل مؤثرة، ولكن بين الحين والآخر واحد منها تسلط عليه الأضواء أكثر من غيره، كما هو حال بيانات منصات الحفر والإنتاج الأمريكي في الآونة الأخيرة.
ولكن هذا يحتاج إلى أكثر من مجرد حسابات بسيطة أو حتى معدلات معقدة، لتحديد كيف سيظهر مزيج هذه العوامل بالنسبة للمتعاملين في الأسواق والمضاربين الذين لا يزالون يحددون أين سيستقر السعر في يوم معين ـــ أو سنة. هذا المظهر، يوصف عادة باسم “المشاعر”، “المزاج” أو “سيكولوجيا” السوق، وهي ظاهرة بشرية قوية واستثنائية غيرت واقع أسواق النفط جذرياَ خلال شتاء عام 2014 و2015.
بدأ التحول في أيلول (سبتمبر) 2014، مع ارتفاع قوي بشكل مثير للقلق في إنتاج النفط الأمريكي، وعلامات على أن الاقتصاد العالمي قد يكون أكثر بطئا مما كان يُعتقد، ما قوض آفاق ارتفاع الطلب على النفط. وكانت أسعار السلع الأساسية في جميع المجالات ضعيفة، حيث بدأت أولى الإشارات تُظهر أن الصين قد لا تكون هي عجلة النمو الدائم كما كان من المفترض على نحو واسع أن تكون.
وهذه مؤشرات “أساسية” قوية، ولكن آثارها السلبية قد تكون قد أُغفلت لفترة أطول بكثير. ولكن بدلا من الإشارات المعتادة للسعر، كان هناك صمت وغموض حتى كانت المفاجأة الكبيرة فى أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) مع قرار “أوبك” السماح لسوق النفط “بتحديد اتجاه الأسعار”.
استغرق الأمر بعض الوقت من أجل التراجع الكامل عن إدارة السوق، وتحدت الأسعار الأساسيات لترتد من 50 دولارا للبرميل إلى أكثر من 60 دولارا للبرميل في أوائل الصيف. ولكن بعد اجتماع “أوبك” في حزيران (يونيو) 2015 الذي لم يتخذ أي قرار وترك الأسعار للسوق، كانت الرسالة واضحة، وتراجعت أسعار النفط إلى نحو 30 دولارا للبرميل في أوائل عام 2016. ولم تعد الأسواق تركز على منظمة “أوبك”، بل بدأت مراقبة عدد منصات الحفر وبيانات الإنتاج الأمريكية. في الوقت الذي بدأت فيه السعودية تصميم مجموعة جديدة من التخفيضات لمنظمة “أوبك”، بمساعدة من الروس وغيرهم من حلفائها من خارج “أوبك”، كانت الأسعار قد وصلت بالفعل إلى منتصف 50 دولارا. وكانت الأسواق غارقة بالنفط والشكوك، واستمرت بالتركيز على بيانات الإنتاج والتخزين في الولايات المتحدة وتجاهلت دعوة “أوبك” الواضحة لأسعار ثابتة ومستقرة.
بعد نصف عام، لا يزال المزاج في الأسواق هبوطيا أساسا. إذا أراد اللاعبون في الأسواق العثور على سبب للحفاظ على الأسعار أو حتى دفعها إلى أعلى، يمكنهم القيام بذلك بسهولة. حيث إن مزيج العوامل غامض في أسوأ الأحوال، وليس سلبيا على جميع الأصعدة.
وتم تمديد اتفاق “أوبك”، وكان التزام المنظمة كبيرا بشكل ملحوظ باعتراف الجميع. في حين أن المخزونات ظلت مرتفعة، والفائض الآن هو في الولايات المتحدة بشكل رئيس، وهناك كثير من الأسباب التي تدعو إلى افتراض أن الأسواق ستكون متشددة مرة أخرى قريبا. ولا يزال الاستثمار في المشاريع الجديدة منخفضا بشكل ملحوظ خارج تشكيلات النفط الصخري في الولايات المتحدة، وحتى هناك، فإن علامات الهشاشة آخذة في الظهور مع انخفاض الأسعار مرة أخرى إلى ما دون 50 دولارا للبرميل.
مع ذلك، فإن الأسواق تتجاهل تماما أي احتمال للصعود. هذا هو الحال على الرغم من الإشارات التصاعدية من جانب الاستهلاك، مع استمرار الطلب على النفط في النمو أعلى بقليل من معدل متوسط العقد، نحو 1.3 مليون برميل يوميا. وبينما قد يكون صحيحا أن الزيادات الأخيرة في إنتاج النفط الليبي والنيجيري تعني أن العرض يكفي لتغطية الطلب، إلا أن الوضع المضطرب في العالم ـــ ناهيك عن شؤون الشرق الأوسط ـــ يشير إلى احتمال كبير لبعض الاضطرابات في الإمدادات في مكان ما في الأشهر القليلة المقبلة التي ستلغي مكاسب العرض تلك.
فلماذا كل هذا التشاؤم والنظرة الهبوطية في الأسواق؟ من المؤكد أن فقدان الثقة بقدرة “أوبك” هو أحد العوامل. تأثير “أوبك” السابق ببساطة لم يعد موجودا ـــ ليس في الوقت الراهن، على أية حال ــــ ما يجعل المتداولين والمضاربين متوترين ومتقلبين. وابل الأخبار اليومية عن انخفاض تكلفة الطاقة البديلة والاهتمام المتزايد بالسيارات الكهربائية أضاف إلى الشعور بقرب نهاية عصر النفط أو أن الطلب سيصل إلى ذروته قريبا. بالطبع هذه ليست العوامل الرئيسة التي يتم من خلالها تحليل أسواق النفط الآنية، ولكنها تدفع إلى الجانب السلبي، وأنها من المرجح أن تفعل ذلك أكثر وأكثر مع التقدم في التحول في الطاقة.
لقد ارتفعت أسعار النفط في السابق في ظل ظروف جيوسياسية مضطربة مشابهة لما هي عليه الآن، وحقيقة عدم قيامهم بذلك الآن معناه أن هناك أكثر من عامل مؤثر في الأسواق. لقد تبدلت قواعد اللعبة. فبدلا من احتمال أن تؤدي الاضطرابات الجيوسياسية العنيفة إلى تعطيل العرض، أصبح هذا الخطر هو احتمال قيام دول كبيرة منتجة مثل السعودية وغيرها برفع الإنتاج من أجل بيع أكبر قدر ممكن من النفط. ويؤدي ذلك إلى تغيير النظرة إلى مخاطر الأسعار إلى الجانب السلبي.
لقد كان النفط الأساس الذي بني عليه الاقتصاد العالمي. وكانت الولايات المتحدة حامية الاقتصاد العالمي، و”أوبك” تحافظ على استقرار السوق. لقد كان ذلك نظاما يفهمه الذين يتداولون النفط في الأسواق ويعتمدون عليه. أي من ذلك لا ينطبق بوضوح بعد الآن. قد يتغير مزاج أو سيكولوجية السوق مرة أخرى. و قد ترتفع الأسعار، أو حتى تقفز نتيجة انخفاض العرض على المدى القريب. ولكن ربما ليس لفترة طويلة. ومن المرجح أن يكون التشخيص النهائي لما هي عليه أسواق النفط المعتلة الآن هو اكتئاب مزمن أكثر من تقلب في المزاج العام.