لعنة البترول في فنزويلا والعراق

لعنة البترول في فنزويلا والعراق
لعنة البترول في فنزويلا والعراق

بقلم- عبد الغني سلامة

تشهد فنزويلا هذه الأيام اضطرابات سياسية وأمنية، تضعها أمام خطر الانزلاق في جرف الحرب الأهلية، حيث ينقسم الشعب بين مؤيد للرئيس المنتخب مادورو (المدعوم من الجيش)، ورئيس البرلمان غوايدو (المدعوم من أميركا).. وذلك على خلفية الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد.

تعتبر فنزويلا (30 مليون نسمة، على مساحة881 ألف كلم2) ثالث دولة منتجة للنفط، ولديها ثاني أكبر مخزون احتياطي من النفط في العالم، فضلا عن كميات كبيرة من الفحم والحديد والذهب، والمناطق الطبيعية الخلابة التي تجعلها قبلة للسياحة.

ومع كل هذه الثروات، إلا أن فنزويلا تعاني من أزمات اقتصادية خانقة، فالبلاد منذ العام 2014، تمر في أزمة تضخم مفرطة خارجة عن كل سيطرة، وقد فقدت العملة قيمتها، وأخذت أسعار السلع تتضاعف مرة كل شهر، حتى أن الحكومة ألغت خمسة أصفار من عملتها، ومنحتها اسما جديدا، ورغم ذلك واصلت العملة تدهورها، ويتوقع صندوق النقد الدولي وصول معدل التضخم إلى 10 مليون في المئة بحلول نهاية العام 2019. كما رفعت الحكومة الحد الأدنى للأجور 34 ضعفا عن المستوى السابق، ورفعت ضريبة القيمة المضافة من 4% إلى 16%. ورغم كل هذه الإجراءات، ما زالت الأزمات تعصف بالبلاد.

وبسبب الركود، والتضخم، والغلاء، وانتشار الجريمة، وانقطاع الكهرباء، وتدني مستوى الخدمات في كل المجالات غادر منذ العام 2014 نحو 3 ملايين فنزويلي بلادهم. وما زال ملايين الفنزويليين يعيشون في فقر مدقع، ويقطن الكثيرون منهم في بيوت من الصفيح، وصار سعر كيلو اللحمة يعادل ثلث الدخل الشهري للفرد، الأمر الذي أدى لانتشار ظاهرة بيع اللحوم الفاسدة. (الحكومة تقول، إن هذه التقارير والأرقام مبالغ فيها، ومسيّسة لتبرير التدخل الأميركي).

أما العراق، فهو ثاني أكبر منتج للنفط في «أوبك»، ولديه أكبر محزون نفطي في العالم، وإلى جانب ثرواته المعدنية، والطبيعية، والمائية، وقوته البشرية.. فهو أيضا يعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية لا حصر لها، فضلا عمّا يشهده من اقتتال داخلي وصراعات مذهبية وطائفية، أدت لهجرة ملايين العراقيين إلى الخارج، ونزوح ملايين آخرين داخل البلاد، وما زال أغلب العراقيين يعيشون في ظروف بالغة السوء، من حيث الفقر، وعودة الأمية، وانتشار المخدرات والجريمة، وتدهور الأوضاع الأمنية، وخراب البنية التحتية، في ظل عجز الحكومات العراقية عن توفير الخدمات الأساسية للسكان.

لماذا، وكيف تتحول بلدان نفطية (مثل فنزويلا ونيجيريا والعراق) إلى مستودعات للفقر؟

إذا كان الفساد أهم سبب في حالتي نيجيريا والعراق، فإن لفنزويلا أسبابا أخرى.

لنتحدث عن الفساد أولاً، وبعجالة.

يحل العراق في المركز 169 بين 180 دولة على مؤشر الفساد. وأقرت هيئة النزاهة العراقية التابعة للبرلمان بأن العراق فقد بسبب الفساد الحكومي نحو 320 مليار دولار في السنوات الـ 15 الماضية. وقد تسلمت الهيئة منذ إنشائها قبل عدة أعوام آلاف القضايا المتعلقة بالفساد، بلغت في الربع الأول من العام الماضي (2018) نحو 10 آلاف قضية، حسم منها 4443 قضية فقط. وتقدر جهات رقابية أن المبالغ التي تم اختلاسها من قبل المسؤولين في الحكومة والأحزاب والمليشيات تتجاوز الـ 600 مليار دولار، منذ سقوط النظام السابق. فضلا عن انتشار الرشوة على نحو غير مسبوق.

أما في فنزويلا؛ فلا شك أن الوضع الاقتصادي رديء؛ لكن السبب الحقيقي هو الانخفاض الكبير في أسعار النفط، والتخريب الاقتصادي من قبل المعارضة، وهذه تأتي في سياق الحرب الاقتصادية التي تشنها أميركا على فنزويلا. لكن هذه الحرب لم تكن لتنجح لولا وقوع فنزويلا في الخطأ الاقتصادي القاتل، المتمثل في الاعتماد على مورد واحد (النفط)؛ وهذا المرض الاقتصادي يسمى Dutsch Disease، حيث يؤدي الأثر السلبي للاقتصاد القائم على مورد طبيعي واحد إلى تدفق حاد للعملة الأجنبية، ما يرفع قيمة عملة البلد، ويجعل المنتجات الوطنية أقل تنافسية من حيث السعر مع المنتجات المستوردة، وهذا يضر قطاعات الزراعة والتصنيع. وفي حالة هبوط أسعار النفط، فإن موازنة الدولة سيصيبها الشلل والعجز.

وقد حاول الرئيس مادورو المضي قدما في برنامج سلفه «تشافيز»، أي تنويع الاقتصاد. وتشجيع التعاونيات لبناء الزراعة والصناعة التحويلية.. ولكن انخفاض سعر النفط لأكثر من النصف أدى إلى انهيار ميزانية الدولة، وبالتالي تقويض تلك الجهود. وما فاقم من تأزم الأوضاع العقوبات الاقتصادية ضد فنزويلا التي بدأها اوباما، ثم صعّدها ترامب بفرض عقوبات مالية.

المثير في الموضوع، أوجه التشابه بين حالتي فنزويلا والعراق؛ فالبلدان أمّـما قطاع النفط في مستهل السبعينيات، وكما بنى «صدام» اقتصاد دولة موجها، يلعب فيه القطاع العام الدور الأكبر، وتقدم الدولة خدمات الرعاية الاجتماعية والصحية والتعليمية لعموم الشعب.. كذلك فعل «تشافيز»، الذي انحاز إلى الفقراء، وحدد أسعار الكثير من السلع، الأمر الذي لم يعجب كبار الرأسماليين.

وكان خطأ «تشافيز» سياساته الاشتراكية، التي تعتمد على ارتفاع أسعار النفط في تمويلها؛ أي وضع جميع البيض في سلة واحدة، وهي النفط، فبعد أن تراجع سعر النفط تراجعت قدرة البلاد على الاستيراد، وقلت لديها العملة الأجنبية، وبالتالي ارتفعت الأسعار وزاد التضخم. والخطأ الثاني ربما في سياسة «تشافيز» هو فرض القيود على سوق النقد الأجنبي، الأمر الذي أدى إلى ازدهار السوق السوداء للعملات الأجنبية. وهذه الأخطاء ظهرت نتائجها في عهد «مادورو».

التشابه بين الحالتين، أن اقتصاد العراق (قبل الاحتلال الأميركي) كان مصابا بنفس المرض، أي ريعية الدولة، واعتمادها على مورد واحد (النفط)، أما التشابه الأهم، فهو التحول التدريجي في سياسات العراق الجديد إلى «النيوليبرالية»؛ أي تخلي الدولة عن واجباتها في الإنفاق على الرعاية الاجتماعية والصحية والتعليمية، وخصخصة القطاع العام، وخلق طبقة طفيلية من الكومبرادور ورجال الأعمال وكبار التجار تابعة وموالية للسوق الإمبريالي العالمي.. الأمر نفسه الذي سيطبقه رئيس البرلمان «غوايدو»، إذا دانت له السلطة.

كما دمرت أميركا العراق، ستدمر فنزويلا.. ويبدو أن الناس لا يتعلمون من تجارب غيرهم.. فهذه الأميركا لا يأتي من ورائها إلا الخراب.