بقلم: محمد الساعد
قبرص هذه الجزيرة الوادعة في شرق المتوسط نموذج للاحتلال الناعم الذي يعقبه احتلال عسكري وفرض الأمر الواقع الذي فعلته تركيا في خلافاتها وتنافسها مع اليونان الذي نافسته في قبرص، نموذج الاحتلال لشمال قبرص شبيه لما يمكن أن يحدث في الإقليم الشرق الأوسطي المضطرب أصلاً، هذه هي الطريقة التركية التي تفرضها بطرق مختلفة ناعمة أحياناً وعسكرية تارة أخرى، طرق تحضر بأشكال وألوان مختلفة في السياسة والاقتصاد والاختراقات الاجتماعية وأحياناً الدينية على الرغم من تركيا تقدم نفسها دولةً علمانيةً صرفةً، وتريد فرض ما أمكنها لاستعادة الاحتلال أو الحلم «العثماني» للأراضي الواقعة جنوب الأناضول التي استقلت أو تحررت من الاستعمار التركي، والتي ترى تركيا أنها أراضٍ تركية مهما كان ساكنوها شعوباً وديانات وأعراقاً تختلف عن العرق التركي.
المتابع للسياسة التركية بكل أوجهها العلمانية، الوطنية، العسكرية، يجد أنها تغلف أساليب الاحتلال بدعايات مسبقة وممنهجة وعلى مدى سنوات طويلة عن دعم الأقليات التركية واللعب على المشاعر الوطنية في البلدان المستهدفة «التركمان» في شمال العراق على سبيل المثال، وفي شمال سوريا إقليم الاسكندرون الذي احتل تماماً رغم أنه من الثابت مرجعيته لإقليم سوريا الكبرى.
دعونا نستذكر كيف احتلت تركيا من وراء ستار شمال قبرص الجزيرة المستقلة الواقعة في شرق البحر المتوسط، وكيف حاولت احتلال شمال العراق وسوريا عن طريق داعش، وكيف تسعى لمد نفوذها الثقافي ليكون مبرراً لاحقاً لاحتلال عسكري يمتد لدول أخرى في العالم العربي.
فقد استقلت قبرص عن بريطانيا في العام 1960، وفي المرحلة اللاحقة للاستقلال بدأت الأقليات التي تعيش في قبرص سواء السكان الأصليين او الأقلية التركية في تقاسم السلطات بين الأقليات، إلا أن الخلافات احتدمت بين الجميع ما أدى إلى شلل اقتصادي وسياسي وتدخلات من دول الجوار خاصة تركيا التي دفع الأقلية التركمانية في شمال قبرص للإعلان عن إنشاء دولة مستقلة سميت لاحقاً بجمهورية شمال قبرص التركية في 15 نوفمبر 1983، مع التذكير أن ذلك الإنشاء سبقه تحرك بدأ في 1975 إثر الاجتياح العسكري التركي لقبرص واحتلال الجزء الشمالي من البلاد.
الأتراك برروا تدخلهم العسكري بأنه جاء في أعقاب الأزمة السياسية والاجتماعية الحادة قسمت المجتمعين اليوناني والتركي في قبرص، انتهت بانقلاب عسكري قاده عناصر من القبرصيين اليونانيين في الإقليم اليوناني.
قبرص التي لم تحل مشكلتها مع الاحتلال التركي لشمالها تعوم فوق بحر من الغاز أو ما يسمى بالحوض الهائل الذي اكتشف مؤخراً في المنطقة المحاذية لإسرائيل ولبنان ومصر وقبرص، الأمر الذي سيزيد من صعوبة فك الاشتباك القبرصي التركي اليوناني، ونتيجة للتقاطعات السياسية والمصالح الاقتصادية الحادة بين القوى في تلك المنطقة فإن اندلاع حرب إقليمية كبرى قائم بسبب الطموحات التركية غير المشروعة وخلافاتها العميقة مع جيرانها.
ومن أشكال التصعيد التركي قيامها بإرسال قطع بحرية لاعتراض شركات الاستكشاف في المياه الإقليمية القبرصية، إضافة لإعلانها الاستفزازي ألا تعترف بترسيم الحدود القبرصية – المصرية المودع لدى الأمم المتحدة، على الرغم من أن تركيا لا تطل على المنطقة البحرية المرسمة إلا أنها تقدم نفسها حاكمةً مرجعيةً لمنطقة حوض البحر المتوسط، وهو أمر لن تقبله دول مصر وسوريا واليونان، أما مع الإسرائيليين فالصدام مستبعد تماماً، خاصة مع العلاقات الممتازة بين أنقرة وتل أبيب.
ستبقى قبرص وسوريا صاعقتي التفجير في منطقة البحر المتوسط نتيجة للأهمية الجيوسياسية والاقتصادية لهما، فمن يسيطر على سوريا وقبرص سيتمكن من الهيمنة على منطقة شرق المتوسط وسيكون متحكماً في خطوط الطاقة في المستقبل الممتدة من حقول الغاز إلى أوروبا.