عقب الإنتعاش الأولي للنفط.. ما هو المتوقع لأساسيات السوق والأسعار

عقب الانتعاش الملحوظ في أسعار النفط الخام، حيث شهدت أسعار خام برنت ارتفاعاً بأكثر من 16 دولار للبرميل خلال شهري مايو ويونيو 2020، ظل سعر خام برنت مستقراً في نطاق محدود يتراوح ما بين 40 إلى 45 دولار للبرميل منذ شهر يوليو 2020.

وعلى الرغم من حالة عدم اليقين المتزايد فقد كانت التقلبات في الأسعار منخفضة بشكل استثنائي (الشكل 1). وذلك يعكس حقيقة أن الانتعاش الأخير في الأسعار كان مدفوعاً بتحسن أساسيات السوق أي بمستويات الطلب والعرض، لذلك فالنطاق الحالي لأسعار النفط يُعد مدعوماً بشكل جيد. وبعد إنكماش الطلب العالمي على النفط في شهر أبريل 2020 بشكل قياسي بلغ 22.7 مليون برميل/يوم مقارنة بالشهر المماثل من العام الماضي، تراجع هذا الانكماش السنوي في شهر يوليو 2020 إلى 10 مليون برميل/يوم فقط، وهو ما يعني أن الطلب العالمي على النفط قد شهد إنتعاشاً بنسبة 90% مقارنة بمستويات ما قبل جائحة فيروس كورونا المستجد (Covid-19). ومن جهة أخرى، انخفضت إمدادات النفط العالمية بمقدار 13.3 مليون برميل/يوم، خلال الفترة (أبريل – يونيو) 2020، نتيجة للاتفاق التاريخي لدول أوبك+ بشأن خفض الإنتاج، وارتفاع نسبة الامتثال به، فضلاً عن التخفيضات الكبيرة في الإمدادات من بعض الدول الأخرى من خارج أوبك+، وبخاصة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وكندا.

ومن ناحية أخرى، يوضح النطاق السعري المحدود والتقلبات المنخفضة أمراً هاماً هو أن السوق النفطية غير جاهزة بعد للانتقال إلى نطاق سعري أعلى، حيث يبدو أن التعافي الذي أخذ شكل حرف “V” في الطلب قد توقف بسبب المخاوف بشأن حدوث موجة ثانية من جائحة فيروس كورونا المستجد (Covid-19)، فقد عاودت حالات الإصابات الجديدة ارتفاعها مؤخراً في أجزاء كثيرة من العالم. وعلى جانب العرض، فقد وصلت تخفيضات الإنتاج إلى ذروتها في شهر يونيو 2020، وأوقفت كل من المملكة العربية السعودية ودولة الكويت ودولة الإمارات العربية المتحدة تخفيضات الإنتاج الإضافية الطوعية البالغة 1.1 مليون برميل/يوم، إلى جانب تقليص أوبك+ لتخفيضات إنتاج النفط بدءاً من شهر أغسطس 2020، واستئناف بعض عمليات الإنتاج المتوقف في أمريكا الشمالية مُنذ شهر يونيو 2020 استجابة لارتفاع الأسعار.

بالإضافة إلى ديناميكيات العرض والطلب تلك، يُشكل التراكم الكبير لمخزونات النفط الخام والمنتجات النفطية ضغطاً إضافياً على أسعار النفط. فقد أشارت التقديرات الأولية إلى أن المخزونات التجارية لدول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بلغت 530 مليون برميل خلال شهر يوليو 2020، وهو مستوى أعلى من متوسط الفترة (​​2010-2014)، وأكثر من ضعف الفائض البالغ 252.3 مليون برميل في العام الماضي .

مراحل إنتعاش الطلب
تظل وتيرة تعافي الطلب على النفط هي العامل الرئيسي المؤثر على حركة أسعار النفط. فخلال الفترة (يناير – أبريل) 2020، ساهم تراجُع الطلب العالمي على النفط في إنخفاض الأسعار بمقدار 32.7 دولار/برميل أو بنسبة 77% من إجمالي الإنخفاض البالغ 42.5 دولار/برميل.

ومع بدء تخفيف عمليات الإغلاق، ساعد التعافي الأولي للطلب على النفط الذي أخذ شكل حرف “V” على إنتعاش الأسعار، حيث ساهم ذلك التعافي بنحو 8.3 دولار/برميل أي بما يقارب 45% من الزيادة في الأسعار والتي بلغت 19.5 دولار/ برميل بين شهري مايو ويوليو 2020. بعد ذلك توقف انتعاش الطلب بشكل مفاجئ، إلا أن ذلك لم يؤثر على مستوى الأسعار، نظراً لتأثير العوامل الأخرى التي دعمت أسعار النفط والتي من أهمها التزام دول أوبك+ باتفاق خفض الإنتاج، ومن الملاحظ مؤخراً، تحول هيكل عقود خام برنت وخام دبي من حالة “backwardation” إلى حالة “contango” وهو ما يعني أن الأسعار الاَجلة لتلك العقود قد أصبحت أعلى من الأسعار الفورية، كما تم تداول فروق أسعار النفط الخام مثل Urals الروسي و Bonny Light النيجيري بخصم، بعد أن كان يتم التداول بعلاوة. وهذا يعكس حقيقة أن الانتعاش في الطلب على النفط من المرجح أن يمر بمراحل متعددة.

أفضل مثال على ذلك هو الطلب على الغازولين وإجمالي الطلب الأمريكي على النفط. فعقب إنخفاض إجمالي الطلب في شهر أبريل 2020 بمقدار 5.7 مليون برميل/يوم على أساس سنوي، إنخفض في شهر مايو بنحو 3.9 مليون برميل/يوم وبنحو 2.8 مليون برميل/يوم في شهر يوليو 2020، وهو ما يمثل مرحلة الانتعاش التي أخذت شكل حرف “V”. ولكن منذ شهر يوليو، توقف الانخفاض في الطلب عند مستوى 3.1 مليون برميل/يوم على أساس سنوي (اعتباراً من 21 أغسطس 2020). وهو ما يمثل مرحلة الخطوط المستقيمة أو الأفقية من الانتعاش (الشكل 4). كما ينطبق هذا المثال أيضاً على سياقات أخرى مثل الهند حيث تم تمديد الإغلاق الفيدرالي والذي كان من المخطط إنتهائه في نهاية شهر أغسطس 2020، ولكنه قد لا ينطبق على جميع الدول وجميع أنواع الوقود، حيث قد يتخذ الانتعاش أشكالاً مختلفة، مع توقع تعافي وتيرة الطلب على وقود الطائرات بوتيرة أبطأ .

والسؤال الرئيسي المطروح في الوقت الحالي هو كم من الوقت سيستغرق تعافي الطلب العالمي على النفط؟ ، أو حتى وصوله إلى مستوى ما قبل جائحة فيروس كورونا المستجد (Covid-19)؟. هناك إجماع متزايد على أن المرحلة التالية من التعافي والوصول إلى مستويات ما قبل تلك الجائحة قد تكون أبطأ مما كان متوقعاً، مع استمرار حالة عدم اليقين بشأن الموجة الثانية من الفيروس وإعادة فرض القيود وإجراءات العزل من جديد. وينطبق هذا أيضاً على الطلب على الغازولين، الذي شهد أداء قوي في مرحلة الإنتعاش الأولي. ومن جهة أخرى، يشير بعض المحللين إلى أنه حتى وإذا وصل الطلب العالمي على النفط إلى مستويات قبل الجائحة، فإن سلوك المستهلكين قد تغير بشكل كبير، بسبب جائحة فيروس كورونا المستجد (Covid-19)، وقد سرع ذلك الوضع من وتيرة انتقال الطاقة بعيداً عن الوقود الأحفوري، مما سيؤدي إلى تباطؤ نمو الطلب العالمي على النفط.

وفي المقابل، هناك اعتقاد قوي لدى بعض المحللين الأخرين بحدوث إنخفاض حاد في استهلاك النفط المرتبط بالتنقل وملكية السيارات على خلفية إتجاه المزيد من الأفراد نحو العمل من المنزل، إلا أن هذا الإنخفاض في الاستهلاك قد يتحول إلى قطاعات أخرى. فقد تؤدي جائحة فيروس كورونا المستجد (Covid-19) إلى إنخفاض في استخدام وسائل النقل العام مقابل الارتفاع في استخدام السيارات الخاصة. علاوة على ذلك، قد يكون هناك تغيير في عادات الشراء لدى الأفراد من خلال المنصات الرقمية، إلا أن ذلك الأمر يقابله ارتفاع في أميال الشاحنات المستخدمة في عمليات التوصيل. وبشكل مختصر، قد تكون جائحة فيروس كورونا المستجد (Covid-19) سرعت من التحولات في سلوك المستهلكين، إلا أنه من السابق لأوانه معرفة مدى استمرار هذه التغييرات، وما إذا كانت عادات العمل والقيادة الجديدة بمفردها ستؤدي إلى انخفاض هائل في الطلب على النفط.

إن السياسة المنتهجة من قبل الحكومات في ظل هذه الظروف ستكون المحدد الرئيسي، حيث يمكن لبعض الحكومات أن تختار “ركوب موجة” التغييرات القسرية في سلوك المستهلك وتتبنى مبادرات “التعافي الأخضر”، من خلال الاسراع في التحول إلى الاعتماد على المركبات الكهربائية في قطاع النقل، و/أو استخدام الهيدروجين كوقود للشاحنات على سبيل المثال. غير أنه وبتتبع التطور التاريخي لأسواق الطاقة، يلاحظ أن التغير في مزيج الطاقة عادة ما يتم بشكل بطيء.

وتشير وكالة الطاقة الدولية إلى أن “سرعة وحجم الانخفاض في نشاط الاستثمار في قطاع الطاقة خلال النصف الأول من عام 2020 لم يسبق له مثيل”. فقد تسببت جائحة فيروس كورونا المستجد (Covid-19) في قيام العديد من الشركات بخفض النفقات، وتم عزل العاملين للقيام بالأعمال من المنزل، وحدث تأخير في الاستثمارات المخطط لها إما تأجيلها أو تعليقها تماماً. وعلى الرغم من إدخال الحكومات حزم تحفيز ضخمة وزيادة نسبة ديونها لتحفيز الاقتصاد، إلا أن المخاوف بشأن “عدم التوازن المالي” قد تؤدي إلى تحولات في السياسة والتي بدورها قد تضعف من جهود التحفيز. علاوة على ذلك ، كشفت جائحة فيروس كورونا المستجد عن نقاط الضعف في الأطر الحالية للتعاون والتنسيق العالميين.

التركيز على جانب العرض
بالنظر إلى حالة عدم اليقين المحيطة بآفاق الطلب العالمي على النفط على المدى المتوسط والمدى الطويل، وكذلك تباطؤ زخم الطلب على النفط على المدى القصير، يصبح دور “جانب العرض” في دعم أسعار النفط أكثر أهمية في السياق الحالي. يُذكر أن العوامل المتعلقة بجانب العرض قد ساهمت بمقدار 8.4 دولار/برميل من إجمالي التعافي في الأسعار خلال الفترة (مايو- يوليو) 2020، وهو ما يماثل مساهمة عوامل الطلب على النفط، كما يوضح (الشكل 3) المشار إليه اَنفاً. هذا وقد تجاوز مستوى الطلب العالمي على النفط مستوى العرض في شهر يونيو 2020، لأول مرة منذ بداية جائحة فيروس كورونا المستجد، عندما وصل مقدار الإنخفاض في إنتاج النفط العالمي إلى ذروته أي عند 14.5 مليون برميل/يوم مقارنة بمستويات ما قبل الجائحة في شهر ديسمبر 2019